أسرار

لماذا يحب الناس الأغاني الحزينة؟

ان عالم الموسيقى عالم يتخطّى المحسوسات، و بالتالي فالمشاعر التي يوقظها في النفس لا يمكن ان تخضع للتصنيفات التي ترسمها الحواس! قد تكون الأغنيّة مليئة بالمشاعر الكئيبة، لكن مرارتها تولّّد في النفس حلاوةً لا توصف، و قد تكون طافحة بالفرح و الأمل، لكن حلاوتها لا تلمس اوتار الروح و تختفي سريعاً من الذاكرة! اذاً ما سرّ الحزن الذي يخلق استمتاعاً، و كيف يحوّل الدماغ النغمات الكئيبة الى صور و احلام مضيئة تشعّ فرحاً؟
من الناحيّة الشعوريّة، نجد ان الدماغ لا يتفاعل مع المشاعر بصورتها التعبيريّة الصرفة، بل بصورتها الإيحائيّة التي توقظ احلاماً مكبوتة في عالم التخيّلات! أليس غريباً ان الغالبيّة القصوى من عشّـاق الفن السابع يكرهون النهايات السعيدة و يستمتعون بتلك التي تدمي القلب و تمزج بين شغف الحاضر و حنين الماضي؟ لذلك، يبدو ان التأثير الشعوري للفنون، و تحديداً الموسيقى و هي ارقاها، لا ينبع من نوع المشاعر بل بالأحرى من قدرتها على إيقاظ  “موانئ الفرح المفقود” التي يحتفظ بتفاصيلها الخفيّة الدماغ- او الفص الأيمن منه!- منذ سنوات الطفولة!
mm
اجل، من الناحيّة الوظيفيّة، هناك دماغان: الدماغ التحليلي و يدعى الفصّ الدماغي الأيسر، و الدماغ التصوّري و يدعى الفصّ الدماغي الأيمن، و هما عالمان متباعدان جذريّاَ في الرؤية و التقييم، لا يلتقيّان الاّ في تكوين الطبع، احدهما يخضع كليـاَ لمنطق المحسوسات، و الآخر لا يرى الاّ احلامه تتأرجح بين حنين الماضي و شغف اللحظة الحاضرة!
النظريـة البيولوجيّة الديناميكيّة تعتبر ان مشاعر الفرح و الحزن التي توحي بها الموسيقى لا يعتمدها الدماغ الاّ اذا تطابقت كليّاً مع اختباراته النفسيّة الماضيّة! لكن هذه النظريّة لا يمكنها ان تفسّر التأثير العميق لمقطوعة موسيقيّة كلاسيكيّة في أشخاص من طباع و اعمار مختلفة، لا يجمعهم رابط ثقافي او نفسي او اجتماعي مشترك! اذاَ هناك اجساد اخرى تهتزّ فرحاً عندما تنساب الألحان الحزينة، كأنّما هذا الفرح المولود من رحم الحزن تكوّن من شتات ذكريّات او عوالم اقتطع منها لحظة الولادة، فتحوّل الى مرارة تخفي في طيّاتها عذوبةً لن تنضج في جسد الحوّاس! اليس الفرح احياءً لذكرى، او استرجاعاً لحنين، او اشتياقاً لعالم حميم يختفي قليلاً ليظهر من جديد في لحن او أغنيّة او مقطوعة موسيقيّة؟
لكن الأغاني التي تنطبع في الذاكرة قد تجمع مشاعر متنوّعة، تبدأ بالحزن العميق ثم توحي بمزيج من الفرح المفاجئ و الأمل المضيء و تصوّر عالم اكثر صفاءً و اقلّ عنفاً و لامبالاة!
مهما تعددّت النظريّات عن انجذاب الناس عموماً الى الأغاني الحزينة، لا يمكننا ان ننكر ان الجمال ليس بالضرورة تعبيراً جامداً عن الفرح، بل ايحاءً بحالات فرح تصوّريّة قد تتخطّى الواقع المحسوس، و احياناً تستبدله بعوالم جديدة قد تلدها يوماً التخيّلات! ان اشهر الأغاني يصوّر الحزن كرحم ولادة للفرح، امّا الأغاني الفرحة التي تعكس حالات واقعيّة، فنادراً ما تبقى في الذاكرة!
قد يكون الحزن في الحياة مصدر إحباط، لأن الدماغ يعيشه لحظةً بلحظة و يعجز عن تحويله الى فرح، لأنه وليد الواقع! في عالم الموسيقى، الأمور تختلف، ربّما لأن اللحن الحزين يخفي فرحاً لم تحن بعد لحظة ولادته…او قد تكون العذوبة المرّة اشهى ما تشتاق اليه روح الإنسان في غربته الموحشة عن عالم الجمال الماورائي…او قد تكون استرجاعاً لذكرى كانت فيها رفيقة هذا الجمال، و في قلب تلك المرارة، يتسلّل الدماغ، هذا المجهول الأكبر، ليحفر الأحاسيس العذبة بحروف من حنين!

الفئات الحياة الإجتماعية

التعليقات